عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 12-24-2011, 12:46 AM
دفئ القلوب دفئ القلوب غير متواجد حالياً
عضو مميز
 







افتراضي

وعن الزهري أنّه لمّا جاءت الرؤوس كان يزيد (لعنه الله) على منظرة جيرون فأنشد لنفسه :
لمّا بدتْ تلك الحمول وأشرقتْ = تلك الشموس على رُبَى جيرون

نَعَبَ الغُرَابُ فقلتُ صِحْ أَوْ لا تَصِح = فَلَقَد قَضَيْتُ مِن النبيِّ دُيُونِي
قال السيد ابن طاووس ، قال الراوي : ثمّ أُدخل ثِقْل الحسين (عليه السلام) ونساؤه ومَن تخلّف من أهل بيته على يزيد بن معاوية وهم مقرّنون في الحِبَال ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال قال له علي بن الحسين : ( أُناشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلى الله عليه و آله) لو رآنا على هذه الصفة ؟ ) ، فأمر يزيد بالحبال فقُطِّعتْ ، ثمّ وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه ، وأجلس النساء خلفه لئلاّ ينظرْنَ إليه ، فرآه علي بن الحسين (عليهما السلام) فلم يأكل بعد ذلك أبداً ، وأمّا زينب فإنّها لمّا رأتْه أهوتْ إلى جيبها فشقّتْه ، ثمّ نادتْ بصوتٍ حزين يُقْرِح القلوب : يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا بن مكّة ومِنَى ، يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، يا بن بنت المصطفى . قال الراوي : فأبكت والله كل من كان في المجلس ويزيد ساكت .
قال السيد ابن طاووس : ثمّ دعا يزيد بقضيب خيزران فجعل ينكتُ به ثنايا الحسين (عليه السلام) ، فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال : ويحك يا يزيد ، أَتَنْكُثُ بقضيبك ثَغْرَ الحسين (عليه السلام) ، ابن فاطمة (عليها السلام) ، أشهد لقد رأيتُ النبيّ (صلى الله عليه و آله) يرشِفُ ثناياه وثنايا أخيه الحسن (عليه السلام) ويقول : ( أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة ، فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعد له جهنّم وساءتْ مصيراً ) . قال الراوي : فغضب يزيد وأمر بإخراجه فأُخرج سَحْبَاً ، قال : وجعل يزيد يتمثّل بأبيات ابن الزبعرى :
لَيتَ أَشياخي بِبَدرٍ شَهِدوا = جَزَعَ الخَزرجِ مِن وَقعَ الأَسَل
لأَهَلُّوا واسْتَهَلُّوا فَرَحَاً = ثُمّ قَالُوا يا يزيد لا تُشَل
قَدْ قَتَلْنَا القَرْمَ مِن سَادَاتِهِم = وَعَدَلْنَاه بِبَدْرٍ فَاعْتَدَل
لَعِبَتْ هَاشِمُ بِالْمُلْكِ فَلا = خَبَرٌ جَاءَ وَلاَ وَحْيٌ نَزَل
لست مِن خِنْدِف إنْ لَمْ أَنْتَقِمْ = مِنْ بَنِي أَحْمَد مَا كانَ فَعَل
خطبة زينب (عليها السلام) في مجلس يزيد في الشام : قال الراوي : فقامتْ زينب بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالتْ :
الحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه كذلك يقول : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَآءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (1) ، أظننتَ يا يزيد ـ حيث أَخَذْتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نُسَاق كما تُسَاق الأُسراء ـ أنّ بنا هواناً على الله ، وبك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ، فَشَمِخْتَ بأنْفِكَ ، ونظرتَ في عطفك جذلان مسروراً حيث رأيتَ الدنيا لك مُسْتَوْسِقَة ، والأمور مُتّسِقَة ، وحين صفا لك مُلْكُنا وسلطاننا ، فَمَهلاً مهلاً ، أَنَسِيْتَ قَوْل الله تعالى : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (2) .
أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء ، تَخْدِيْرك حرائرك وإِمَائِك ، وسَوْقك بنات رسول الله (صلى الله عليه و آله) سبايا ، قد هتكتَ ستورهن ، وأَبديْتَ وجوههنّ ، تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهنّ أهلُ المناهِل والمناقِل ، ويتصفّح وجوههنّ القريبُ والبعيدُ والدنيُّ والشريف ، ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ ولا مِن حُماتهنّ حَمِي ؟ وكيف ترتجي مراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبتُ لحمه من دماء الشهداء ؟ وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشَنَفِ والشَنَآن ، والإحَن والأضغان ؟ ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم :
لأَهَلُّوا واسْتَهَلُّوا فَرَحَاً = ثُمّ قَالُوا يا يزيد لا تُشَل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله (عليه السلام) سيد شباب أهل الجنّة تنكثها بِمِخْصَرَتِكَ ، وكيف لا تقول ذلك ! وقد نكأتَ القرحة واستأصلتَ الشَأْفَة بإراقتِكَ دماء ذرّيّة محمّد (صلى الله عليه و آله) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، وتهتفُ بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم ، فَلَتَرِدَنّ وَشِيْكَاً موردهم ، ولتَوُدَنّ أنّك شُلِلْتَ وبُكِمْتَ ولم تكنْ قلتَ ما قلتَ وفعلتَ ما فعلتَ ، اللّهمّ خُذْ بحقّنا وانتقِمْ مِن ظالمنا ، واحْلُلْ غضبَكَ مِمَّن سَفَكَ دِمَاءَنَا وقَتَل حُمَاتنا ، فو الله ما فَرَيْتَ إلاّ جِلْدَكَ ، ولا حَزَزْتَ إلاّ لَحْمَكَ ، ولتَرِدَنّ على رسول الله (صلى الله عليه و آله) ممّا تحمّلتَ مِن سَفْكِ دِمَاء ذرّيّته ، وانتهكتَ مِن حرمته في عترته ولُحْمَتِهِ ، حيث يجمع الله شَمْلَهم ويَلُمّ شَعَثَهم ويأخذ بحقّهم ، ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (3) وحسبك الله حاكماً وبمحمّد (صلى الله عليه و آله) خصيماً وبجبرائيل ظهيراً ، وسيعلم مَن سوّلَ لك ومكّنكَ من رقاب المسلمين ، وبئس للظالمين بَدَلاً ، وأيّكم شَرٌ مكانَاً وأضعف جُنْدَاً ، ولئنْ جرّتْ عَلَيّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَك ، وأسْتَعْظِمُ تَقْرِيْعَكَ ، وأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيْخَكَ ، لكنّ العيون عَبْرَى والصدور حَرّى ، أَلاَ فالعَجَب كلّ العَجَب لقَتْلِ حزب الله النُجَبَاء بحزب الشيطان الطُلَقَاء ، فهذه الأيدي تنطفُ من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجُثَث الطواهر الزواكي تَنْتَابها العواسِل وتعفّرها أُمَهات الفراعِل ، ولئنْ اتَخذْتَنَا مَغْنَمَاً لتجدنا وَشِيْكَاً مَغْرَمَاً ، حين لا تجد إلاّ ما قدّمتْ يداك ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (4) فإلى الله المشتكى وعليه المعوّلُ ، فَكِدْ كَيْدَك واسْعَ سَعْيَكَ ونَاصِبْ جُهْدَكَ ، فو الله لا تَمْحُو ذِكْرَنَا ولا تُمِيْتُ وَحْيَنَا ولا تُدْرِكُ أَمَدَنَا ولا تَدْحَضُ عَنْكَ عَارِهَا ، وهل رأيُك إلاّ فَنَد وأَيّامُكَ إلاّ عَدَد وجَمْعُكَ إلاّ بَدَد ، يوم ينادي المنادي : أَلاَ لعنةُ الله على الظالمين ، فالحمد لله ربّ العالمين الذي ختم لأوَّلِنَا بالسعادة والمَغْفِرَة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أنْ يكمل لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل .
فقال يزيد :
يا صيحةً تُحْمَدُ مِن صَوَائِحِ = مَا أَهْونَ المَوْت على النَوَائِحِ
قال المؤلّف النقدي ( أعلا الله مقامه ) :
إنّ بلاغة زينب وشجاعتها الأدبية ليست من الأمور الخفيّة ، وقد اعترف بها كلّ مَن كتب في وقعة كربلاء ، ونوّه بجلالتها أكثر أرباب التاريخ ، ولعمري إنّ من كان أبوها علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي ملأت خطبه العالم وتصدى لجمعها وتدوينها أكابر العلماء ، وأُمّها فاطمة الزهراء صاحبة خطبة ( فدك الكبرى ) وصاحبة ( الخطبة الصغرى ) التي ألقتْها على مسامع نساء قريش ، ونقلتها النساء لرجالهنّ ، نعم إنّ مَن كانت كذلك فَحَرِيّة بأنْ تكون بهذه الفصاحة والبلاغة ، وأنْ تكون لها هذه الشجاعة الأدبية والجسارة العلوية ، ويزيد الطاغية يوم ذاك هو السلطان الأعظم والخليفة الظاهري على عامّة بلاد الإسلام ، تؤدّي له الجِزْيَة الأُمَمُ المختلفة والأُمَمُ المتباينة في مجلسه ، الذي أظهر فيه أُبَّهَةَ الملك ومَلأَهُ بهيبة السلطان ، وقد جُرِّدتْ على رأسه السيوف ، واصطفّتْ حوله الجلاوزة ، وهو وأتباعه على كراسيّ الذهب والفضّة وتحت أرجلهم الفرش من الديباج والحرير ، وهي صلوات الله عليها في ذلّة الأَسْر ، دامية القلب باكية الطرف ، حَرّى الفؤاد من تلك الذكريات المؤلِمة والكوارث القاتلة ، قد أحاط بها أعداؤها من كلّ جهة ، ودار عليها حُسّادها مِن كلّ صوب ، ومع ذلك كلّه ترمز للحقّ بالحق ، وللفضيلة بالفضيلة ، فتقول ليزيد غير مكترثة بهيبةِ ملكه ولا معتنية بأُبّهة سلطانه : أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء .
وتقول له أيضاً :
ولئنْ جرّتْ عَلَيّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَك ، وأسْتَعْظِمُ تَقْرِيْعَكَ ، وأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيْخَكَ .
فهذا الموقف الرهيب الذي وقفتْ به هذه السيدة الطاهرة مثّل الحقّ تمثيلاً ، وأضاء إلى الحقيقة لطُلاّبها سبيلاً ، أَفْحَمَتْ يزيد ومَن حواه مجلِسُهُ المشؤوم بذلك الأسلوب العالي من البلاغة ، وأَبْهَتَتْ العارفين منهم بما أخذتْ به مجامع قلوبهم من الفصاحة ، فخرِسَتْ الأَلْسُن وكُمّتْ الأفواه وصُمّتْ الآذان ، وكهربتْ تلك النفس النورانيةُ تلك النفوسَ الخبيثةَ الرذيلة مِن يزيد وأتباعه بكهرباء الحقّ والفضيلة ، حتى بلغ به الحال أنّه صبر على تكفيره وتكفير أتباعه ، ولم يتمكّن مِن أنْ يَنْبِس بِبِنْتِ شِفَة ليقطع كلامها أو يمنعها من الاستمرار في خطابتها ، وهذا هو التصرّف الذي يتصرّف به أرباب الولاية متى شاءوا وأرادوا بمعونة الباري تعالى لهم ، وإعطائهم القدرة على ذلك .
وما أبدع ما قاله الشاعر الجليل السيد مهدي ابن السيد داود الحلّي عمّ الشاعر الشهير السيد حيدر رحمهما الله في وصف فصاحتها وبلاغتها من قصيدة :
قد أسروا مَن خَصّها بآيةِ = التطهيرِ ربّ العرشِ في كتابهِ
إنْ ألبستْ في الأَسْرِ ثَوْبَ ذُلَّةٍ = تَجَمَّلَتْ للعزِّ في أَثْوَابِهِ
ما خَطَبَتْ إلاّ رَأَوْا لِسَانَهَا = أَمْضَى مِن الصِمْصَامِ فِي خِطَابِهِ
وجَلْبَبَتْ فِي أَسْرِهَا آسِرَهَا = عَارَاً رَأَى الصِغَار فِي جِلْبَابِه
والفصحاءُ شاهدوا كلامَها = مقال خَيْرَ الرُسْلِ في صَوَابِهِ
ومِن شجاعتها الأدبية في مجلس يزيد ما نقله أرباب المقاتل وغيرهم من رواة الأخبار :
إنّ يزيد دعا بنساء أهل البيت والصبيان فأُجْلِسُوا بين يديه في مجلسه المشؤوم ، فنظر شاميٌّ إلى فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) فقام إلى يزيد وقال : يا أمير المؤمنين ، هَبْ لي هذه الجارية تكون خادمة عندي ؟
قالت فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) : فارتعدت فرائصي ، وظننتُ أنّ ذلك جائز لهم ، فأخذتُ بثياب عَمّتي زينب ، فقلتُ : عمّتاه أُوْتِمْتُ وأُسْتَخْدَم ؟
فقالتْ عمّتي للشاميّ : كذِبْتَ والله ولَؤُمْتَ ، ما جعل الله ذلك لك ولا لأميرك .
فغضب يزيد وقال : كَذِبْتِ والله ، إنّ ذلك لي ولو شئتُ لَفعلتُ .
قالتْ : كلاّ والله ، ما جعل ذلك لك إلاّ أنْ تَخرِج مِن مِلّتِنَا وتدين بغير ديننا .
فاستطار يزيد غضباً وقال : إيّاي تستقبلين بهذا الكلام ، إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك .
فقالتْ زينب : بدين أبي وأخي اهتديتَ أنت وأبوك إنْ كنتَ مسلماً .
قال : كَذِبْتِ يا عدوّة الله .
قالتْ : يا يزيد ، أنت أمير تشتمُ ظالماً وتقهر بسلطانك ، فكأنّه استحى وسكتَ فأعاد الشامي كلامه هَبْ لي هذه الجارية ، فقال له يزيد : أسكتْ ، وَهَبَ الله لك حَتْفَاً قاضِيَاً .
وروى السيد ابن طاووس في اللهوف هذه الرواية كما يأتي :
قال : نظر رجل من أهل الشام إلى فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) فقال : يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية .
فقالتْ فاطمة لعمّتها زينب (عليها السلام) : أُوْتِمْتُ وأُسْتَخْدَمُ ؟
فقالت زينب (عليها السلام) : لا ، ولا كرامة لهذا الفاسق ، فقال الشامي : مَن هذه الجارية ؟ فقال يزيد : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب .
فقال الشامي : الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب ؟
قال : نعم .
فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، أَتقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته ، والله ما توهّمتُ إلاّ أنّهم سَبْي الروم ، فقال يزيد : لأُلْحِقَنَّكَ بهم ، ثمّ أمر به فضُرِبَتْ عنقه . والذي يظهر أنّ هاتَين القضيّتين كلتيهما وقعتا في ذلك المجلس المشؤوم .
قال السيد محسن الأمين في لواعجه : ثمّ دخلتْ نساء الحسين (عليه السلام) وبناته على يزيد فقمْنَ إليهنّ وصِحْنَ وبَكِيْنَ وأَقَمْنَ المَآتِم على الحسين (عليه السلام) ، ثمّ أمر لهم يزيد بِدَارٍ تتّصِلُ بداره ، وقيل أَمَرَ بهم إلى منزل لا يكنّهم مِن حَرٍّ ولا بَرْدٍ ، فأقاموا فيه حتى تقشّرتْ وجوههم ، وكانوا مدّة مقامهم في الشام ينوحون على الحسين (عليه السلام) .
السَّفَر الخامس :
( من الشام إلى كربلاء ، ومن كربلاء إلى المدينة في رعاية النعمان بن بشير وأصحابه ، وقد أمرهم يزيد بالرِفْق بنساء الحسين (عليه السلام) ) :
قال المفيد في ( الإرشاد ) : ندب يزيد النعمان بن بشير ، وقال له : تجهّز لتخرج بهؤلاء النسوة إلى المدينة ، وأنقذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولاً تقدّم إليه أنْ يسير بهم في الليل ، ويكونوا أمامه حيث لا يفوتون طرفه ، فإذا نزلوا انتحى عنهم وتفرّق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم ، وينزل منهم بحيث إنْ أراد إنسان من جماعتهم وضوءاً أو قضاء حاجة لم يَحْتَشِم ، فسار معهم في حملة النعمان ، ولم يزل ينازلهم في الطريق ويرفق بهم كما وصّاه يزيد حتى دخلوا المدينة .
وقال السيد ابن طاووس : لمّا بلغوا العراق قالوا للدليل : مُرْ بنا على طريق كربلاء ، فوصلوا إلى موضع المصرَع ، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري ( رحمه الله ) وجماعة من بني هاشم ورِجالاً مِن آل الرسول (صلى الله عليه و آله) قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) فتوافوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد ، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد فأقاموا على ذلك أَيّامَاً ، قال : ثمّ انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة ، قال بشر بن حذلم : فلمّا قربنا منها نزل علي بن الحسين (عليهما السلام) فحطّ رَحْلَه وضرب فِسْطَاطَه وأنزل نساءه ، وقال : ( يا بِشْر ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟ فقلتُ : بلى يا بن رسول الله ، إنّي لشاعر ، فقال (عليه السلام) : ادْخُل المدينة وانْعَ أبا عبد الله (عليه السلام) ) ، قال بشر : فركبتُ فرسي وركضتُ حتى دخلتُ المدينة ، فلمّا بلغتُ مسجد النبي (صلى الله عليه و آله) رفعتُ صوتي بالبكاء وأنشأتُ أقول :
يا أهلَ يثربَ لا مقام لكمْ بها = قُتِلَ الحسين فأدْمُعِي مِدْرَارُ
الجِسْمُ مِنْهُ بكربلاء مُضَرّجٌ = وَالرَأْسُ مِنْهُ عَلَى القَنَاةُ يُدَارُ
قال : ثمّ قلتُ هذا علي بن الحسين (عليهما السلام) مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه ، قال : فما بَقِيَتْ في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ بَرَزْنَ مِن خُدورِهِنَّ مكشوفة شعورهنّ ، مخمّشة وجوههنّ ، مضروبة خدودهنّ ، يدعون بالويل والثبور ، فلم أَرَ باكياً وباكية أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً مَرّ على المسلمين مثله .
وقال أبو مخنف في مقتله نظير ما نقله السيد ابن طاووس ، ثمّ قام السجّاد (عليه السلام) يمشي إلى أنْ دخل المدينة ، فلمّا دخلها زار جدّه رسول الله (صلى الله عليه و آله) ، ثمّ دخل منزله . وفي ( المنتخب ) : وأمام أُمّ كلثوم ، فَحِيْنَ توجهتْ إلى المدينة جعلتْ تبكي وتقول :
مدينةَ جَدِّنَا لا تَقْبَلِيْنَا = فَبِالحَسَرَاتِ والأَحْزَانِ جِيْنَا
خَرَجْنَا مِنْكِ بِالأَهْلِيْنَ جَمْعَاً = رَجِعْنَا لاَ رِجَال وَلا بَنِيْنَا
وَكُنَّا فِي الخُرُوْجِ بِجَمْعِ شَمْلٍ = رَجِعْنَا حَاسِرِيْنَ مُسَلّبِيْنَا
وَكُنَّا فِي أَمانِ اللهِ جَهْرَاً = رَجِعْنَا بِالقَطِيْعَةِ خَائِفِيْنَا
وَمولانا الحسينُ لَنَا أَنِيْسٌ = رَجِعْنَا وَالحُسَيْن بِهِ رَهِيْنَا
فنحنُ الضَائِعَاتُ بِلاَ كَفيلٍ = ونحنُ النائحاتُ على أَخِيْنَا
ونحنُ السائراتُ على المَطَايَا = نُشَالُ على جِمَالٍ المُبْغِضِيْنَا
ونحنُ بناتُ يس وطه = ونحنُ الباكياتُ على أَبِيْنَا
ونحنُ الطاهراتُ بلا خفاءٍ = ونحنُ المُصْطَفُونَ المُخْلَصُوْنَا
ونحنُ الصابراتُ على البلايا = ونحنُ الصادقونَ النَاصِحُوْنَا
أَلاَ يَا جَدّنا قَتَلُوا حُسَيْنَاً = وَلَم يَرْعَوا جَنَابَ اللهِ فِيْنَا
أَلاَ يَا جَدَّنَا بَلغتْ عِدَانَا = مُنَاهَا واشْتَفَى الأعداءُ فِيْنَا
لقد هَتَكُوا النساءَ وحَمَّلُوْهَا = على الأقتاب قَهْرَاً أَجْمَعِيْنَا
وزينبَ أَخْرَجُوْهَا مِن خِبَاهَا = وفَاطِم واله تُبْدِي الأَنِيْنَا
سكينةُ تَشتكي مِن حَرِّ وَجْدٍ = تُنَادِي الغَوْث رَبّ العَالَمِيْنَا
والقصيدة تركناها خوف الإطالة .
قال الراوي : وأمّا زينب (عليها السلام) فأخذت بعضادَتَي باب المسجد ونادتْ : يا جدّاه ، إنّي ناعية إليك أخي الحسين (عليه السلام) ، وهي مع ذلك لا تجفّ لها عَبرة ولا تَفْتَر مِن البكاء والنحيب ، وكلّما نظرتْ إلى علي بن الحسين (عليها السلام) تَجَدَّد حزنها وزاد وَجْدُها .
أقول : وكأنّي بها (عليها السلام) بعد أخيها الحسين (عليه السلام) لا زالت باكية العين حزينة القلب مُنْهَدّة الركن من المصيبة ، وكأنّي بلسان حالها يقول :
يا غائباً عَن أهلِهِ أَتَعودُ أَمْ = تَبقى إلى يوم المِعَادِ مُغَيَّبَا
يا ليتَ غائبَنَا يعودُ لأَهْلِهِ = فنقول أهلاً بالحبيبِ ومَرحَبَا
لو كان مجروحاً لَعُولِجَ جَرْحُهُ = كيف العلاج ونور بهجتِهِ خَبَا




رد مع اقتباس